نوافذ سينمائية

فضح لممارسات ميديا الحوادث…(Nightcrawler)

مهند النابلسي / الاردن*

لا اوافق رأي معظم النقاد بتشبيههم لأداء (جاك جيلينهال) بدور (دي نيرو) في فيلم سائق التاكسي الشهير، فالتمثيل هنا استحواذي متحول يصل لحدود التقمص الكامل للشخصية، بحيث تكاد تقتنع بأنك تشاهد فيلما وثائقيا مصور بكاميرا خفية، وربما تفوق على (دي نيرو) بهذا السياق، فيستعرض شخصية البطل (لويس بلوم) كمصور فيديو هاوي يتحول تدريجيا لشخص مهووس، وحتى لمجرم ومريض نفسي تصعب معالجته، وذلك بعد ان يتذوق طعم الشهرة وينعم بالمال الوفير، لنلاحظ سلوكه باللقطات الأخيرة المؤثرة تجاه رفيقه الشاب الساذج المسكين لا أخلاقيا بل واجراميا، كما تمثل ذلك بوضوح بخطبته التوجيهية لموظفيه الجدد، التي تنطوي على روح مستبدة، انتهازية لا ترحم.
أما الشيء اللافت الثاني بهذا الشريط الجريء المميز، فهو تناوله الغريب لعلاقة مصور الحوادث (بلوم) مع صاحبة محطة الاخبار المحلية (رينيه روسو)، فهي علاقة مهنية لا تخلو من الاعجاب المتبادل، ولكن بعكس المتوقع لم نشاهد لقطات حميمية بينهما كما يحدث عادة بمعظم الأفلام المشابهة ليسجل كنقطة ايجابية للفيلم.
نرى في البداية (بلوم) المقهور العاطل عن العمل، وهو يتحول تدريجيا لـ(صرصار ليلي) عندما يكتشف عالم صحافة الحوادث والجرائم المتلفزة بالصدفة، هؤلاء الذين يقتنصون الفرص ويصورون لحسابهم الخاص الحوادث والجرائم، وينجح مبتدأ بتصوير حالات صادمة من القتل المريع وحز الأعناق، مخترقا بثقة هذا العالم الليلي الخطير كـ(زاحف ليل) مثابر ليحصل على سبق تصويري، محولا صور الضحايا لحفنة من الدولارات، ولا يخفى مساعدة المتقاعدة (رينيه روسو) له ببداية عمله، كما يساعده شاب مسكين عاطل (بيل باكستون)، عارضا عليه اجر بخس، وحتى بذروة نجاحه باخر الشريط يبخل عليه. يدخل (غيلروي) بهذا الفيلم الغريب والصادم حقل الاخراج بجرأة لافتة، مقدما شريطا سوداويا، تكاد تشعر بأنك ترى فيلم جريمة فرنسي من بصمات المخرجين الشهيرين (بريسون وفيلفيل)، فيلم يغوص بزوايا وأزقة الحوادث والاجرام لمدينة تشع بأضواء النيون ليلا، وكما يفعل بطله الغريب، فهو ينجرف مصورا كوميديا سوداء مرعبة بنمط اخراج وثائقي، حتى نكاد لا نميز بين الضحايا والمجرمين ورجال الشرطة، وبكاميرات مزروعة ثابتة ومتحركة، كما أنه يستغل كل اللحظات السينمائية بسياق السيناريو بلا هدر، مستخدما حيوية التصوير ومهارات القطع والمونتاج، مستكشفا خفايا الحوادث بالأزقة والزوايا القذرة، بعيدا عن اناقة الصور السينمائية المنمقة بالاستديوهات.
الشريط كما يبدو أقل اهتماما بالبعد الاجتماعي، بقدر انغماسه بدراسة الشخصية التي تبدو طموحة ومستبدة وسيكوباتية، والتي تمثل جنسا من الزواحف الآدمية يمثل تهديدا لوجودنا الأخلاقي، وهي انتهازية ومقرفة وطريفة في آن واحد، ولا يختلف السلوك هنا عن ممارسات البعض القاهرة بتصوير الحوادث والأشخاص بالموبايل لوضعها مستعجلا بصفحته على الفيسبوك، وتسجيل سبق فيسبوكي، فهو فيلم صادم بطريقة كشفه الجريئة القاتمة لعالم ومخاطر الميديا والصحافة المتلفزة واستغلالها لمصائب الناس، وبطريقة استهلاكية تدل على وضاعة الفضول البشري وانانيته القاهرة.
بدا الممثل (جاك جيلينهال) بعمره الذي لا يتجاوز الآن الـ37عاما، وكأنه يؤسس هنا لشخصية (شيطانية) مستغلة لا ترحم، وبدا عنيدا ومخيفا ومتفاعلا بطريقة كلام وسلوك خاص وتحديق ميت بارد بعيون جاحظة، لا يمكن كبح جماحها وجنونها وطموحها.
*ناقد وباحث سينمائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى