(Suburbicon) المجتمع المثالي والسلوك العدائي!
مهند النابلسي/ الاردن*
مجتمع ضواحي مثالية، يتكون من منازل ملائمة متماثلة، وحدائق جميلة بأسعار معقولة، وهذا المكان مثالي للاسر (المتوسطة الدخل) التي ترغب بتنشئة اولادها في بيئة صحية اجتماعية جميلة، وفي صيف العام 1959 يحدث ذلك تماما مع اسرة (لودج) ظاهريا، ولكن تحت السطح الهادىء يوجد واقع مزعج، فالزوج والأب (غاردنر لودج) (مات ديمون) يتحرك في اجواء تآمر ظلامية وباطنية شريرة، تحفل بالخيانة والخداع والعنف، هذا هو ملخص قصة الفيلم الجديد الشيق لـ(جورج كلوني) التي تتحدث عن اناس سيئين اتخذوا خفية خيارات خاطئة وكارثية.
كتب الاخوة (كوان) قصة فيلم عصري معقد ومترابط مع الماضي العنصري البائس لأمريكا، وهو ربما يسترجع خطاب (ترامب) الشعبوي حول جعل امريكا عظيمة مرة اخرى، كما يسلط الأضواء ثانية على فحوى الحلم الأمريكي المثالي وامكانية تجديده.
ابدع كل من (ديمون) و(مور) بأداء دورهما الغامض المريب، قامت (جوليان مور) بأداء دوري الام المقعدة والخالة الخائنة، حيث تبدأ القصة بطيئة وهادئة، لتتطور لتصبح ثقيلة وحافلة بالتوتر والهياج وعناصر الجريمة المتداخلة، وصولا للنتيجة المأساوية المتوقعة، وهو فيلم شيق ومسلي، ويعلق في الذهن.
لا شك أنه فيلم انيق بمشاهد جميلة، وابدع (مات ديمون) كعادته بتقمص الشخصية، كما في فيلم (جيسون بورن) الحركي، كما يذكرنا اداء جوليان مور باداء (كيم نوفاك) في فيلم هيتشكوك الخالد (فيرتيغو)، ولا اوافق اراء معظم النقاد الذين هاجموا اخراج كلوني، بل اعتبرته قصة سينمائية معبرة تدور على خلفية نزوح اول اسرة سوداء للعيش في (اسكان مثالي) في نهاية خمسينات القرن الماضي، كما ان الصداقة البريئة بين الصبيين كانت معبرة وذات دلالة، وقد لعبها باتقان كل من (نوح جوب) و(توني اسبينوزا)، باختصار انه ليس فيلما سيئا البتة ولكنه ليس الأفضل، كما انه بالاضافة لبعده التشويقي الغامض، فهو فيلم مناهض للعنصرية بامتياز وباسلوب فني راقي، بعيد عن الخطابة الاملائية، كما يحتوي الفيلم على مشاهد ابداعية منها طريقة عودة ديمون العاجلة على دراجة صبيانية للمنزل وبموازاته سيارة (القاتل) المافيوزي السمين المتنفذ، ثم اكتشافه لمقتل الخالة (ماغي)، وطريقة تناوله للسندويشات والحليب المسمم وهو يهدد ابنه الصبي ويخيره بأن ينفي معرفته بتفاصيل ما جرى لكي يقبضا تعويض التأمين ويهربا لجزيرة في الكاريبي والا…، ثم طريقة صراع قاتل الخالة النحيل مع الخال المخلص، فيما يبقى الصبي تحت السرير يسمع (ضجيج صراعهما الضاري) متلصلصاً ومرعوباً وكأنا نتابع الصراع من خلاله، كل هذه اللقطات المدهشة المرسومة بنفس اسلوبية (هيتشكوك) و(بولانسكي) تجاهلها معظم النقاد بلا سبب.
يظهر (مات ديمون) هنا بشخصية (غاردنر لودج) الغامض، الذي يعتقد رئيس الشرطة بالخطأ أنه يهودي، فيما ينفي هو ذلك مدعياً انه من طائفة مسيحية أقلية، كما أن هناك أشياء مريبة وغامضة ومتداخلة تحدث في منزل (لودج) أهم كثيرا من تداعيات سكن وبقاء العائلة السوداء في الضاحية أسفل الشارع، في اشارة تاريخية لما حدث في العام 1959، الفيلم الذي عرض اولا في مهرجان البندقية السينمائي (2017)، في نظرة ما يشير بجرأة وذكاء لمسيرة الحرية والحقوق المدنية، ويلمح للتشابه العصري بالرغم من مضي العقود، انه فيلم يبتعد عن الكوميديا السوداء، ليدخل دهاليز الشر والجريمة الخفية، كما يسلط الضوء على عناوين العزل والجدران والظلام، في اشارة ذكية لواقع الحياة في أمريكا (دولة الأحلام والمستقبل)!
*ناقد وباحث سينمائي