فنون عراقية

هوية الاغنية العراقية على وفق مخاضات التأريخ

عدسة الفن – محمد باقر ناصر

تمثل الهوية ذلك الشيء غير المرئي، الذي يجمع الأجزاء في كل مكون ذلك التراص المؤدلج، كالدولة والمجتمع والدين والثقافة، وكل شيء يحمل تفرداً وخصوصية.
بدأت هوية الأغنية العراقية تتشكل بعد تشكيل جسد الدولة العراقية في العام 1921، وتأثراً بفسيفساء المجتمع العراقي و نسبياته الثقافية فضلاً عن تنوع بيئاته الجغرافية، نشأت الأغنية بشكل يختلف عن مثيلاتها في المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل. ارتدت الأغنية العراقية ثوب الحزن متأثرة بجملة من الأسباب فضلاً عن مجموعة الأزمات التي حلت بالمجتمع العراقي. كانت الأغنية البغدادية هي السمة البارزة في جسد الفن العراقي، وذلك لوجود السلطة السياسية والإدارية هناك، فضلاً عن مؤسسات راعية للفن والفنانين كانت تفتقر لها أغلب المحافظات العراقية، ناهيك عن النقل التلفزيوني والإذاعي الذي كان يوفر شهرة كبيرة للفنان، وذلك خلال حقبة العهد الملكي والعهد الجمهوري المتمثل بحكم عبد الكريم قاسم، تميزت الأغنية في ذلك الوقت بمحتواها الرصين ومقاماتها التي تم استعارة بعضها من الموسيقى الفارسية والتركية، تزامن ذلك مع تصاعد الطرب الريفي، حيث ظهر في فترات لاحقة عدد من المطربين الريفيين الذين جاؤوا من قلب أهوار العمارة والناصرية، داخلين للساحة الغنائية بقوة، أمثال (حضيري ابو عزيز) و(داخل حسن)، إذ تبنت أعمالهم آنذاك الإذاعة والتلفزيون العراقي في بغداد.
كان التحول الكبير في الأغنية العراقية في فترة تلت حقبة الهجرة من الريف الى المدينة، بعد تدهور الزراعة وإنهاء النظام الاقطاعي عام 1958، انتقل الكثير من الفنانين المغمورين من أرياف جنوب العراق ليستقروا في أطراف مدينة بغداد، وبما أن الريف مهنة سكانه الرئيسة هي الزراعة، فقد أكد (سعدون جابر) مقارنا بين الأغنيتين العراقية والمصرية: ان الأغنية العراقية كانت قد تأثرت في فترة فيضان دجلة والفرات أثناء مواسم الزراعة، ما كان يعظم ظاهرة الحزن في الشخصية الريفية العراقية، والتي انعكست على نتاجات العراقيين الفنية وتحديداً الغنائية منها، وهذا ما جعل (حضيري ابو عزيز) يقول في إحدى أغانيه (تتعب وتعبك موش الك عمّي يفلاح)، على عكس ذلك في مصر فقد كان يتميز نهر النيل بالسكينة والاستقرار في مواسم الزراعة والحصاد، فظهرت الأغنية منتشية بنوع من الفرح ليقول على إثر ذلك محمد عبد الوهاب (محلاها عيشة الفلاح محلاها)، هذا ما أضفى على الأغنية العراقية مسحة حزن إضافية قادمة من أرياف جنوب العراق، لتبدأ ملامح الثقافة البغدادية بالتغير، ونشوء حقبة جديدة، وشكل غنائي جديد سمي بنمط الغناء الحديث، وذلك في مطلع سبعينيات القرن المنصرم، ليتكلل بالقضاء على المقام العراقي.
من الجدير بالذكر ان هذا المقال سيتبع في جزء آخر، على أمل إتمامه بصورة مفصلة، وتبيان جميع الحقب والأحداث التي أثرت في شكل الأغنية العراقية الحالية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى